الحادثة الاولى وقعت في الثامن عشر من شهر شباط-فبراير الماضي، وانتهت بقتل ستة من المخطوفين، قيل انهم ينحدرون من محافظة النجف الاشرف، وتحرير الستة الاخرين المنحدرين من الانبار، اما الحادثة الثانية، فقد وقعت في الثالث والعشرين من الشهر ذاته، وانتهت بقتل كل المخطوفين، الذين هم من محافظة النجف الاشرف ايضا، حيث عثرت الاجهزة الامنية على جثثهم بعد وقت قصير من اختطافهم.
وحتى كتابة هذه السطور، لم تعلن اية جهة مسؤوليتها عن تلك العمليات، لكن مجمل المؤشرات تذهب الى ان تنظيم داعش الارهابي، هو الذي يقف وراء ارتكابها، وربما يعلن عن تورطه بعمليات الخطف والقتل الاخيرة خلال الايام القليلة المقبلة، وربما لن يعلن عن ذلك، لاسباب ودواع معينة.
ولكي تتضح وتتجلى مختلف ابعاد صورة المشهد بكل خطوطها وملامحها، والوانها ومعالمها، لابد من الاشارة الى جملة امور وحقائق تتداخل في توقيتاتها وامتداداتها الزمانية.
اول واهم تلك الحقائق، هي ان حوادث الخطف والقتل الاخيرة، وقعت في مناطق، شهدت في ظل التردي الامني واستفحال النشاطات الارهابية قبل بضعة اعوام، عمليات عديدة مماثلة، طالت عناصر امنية، وسياح وحجاج ورياضيين، وقد اختفت مثل تلك العمليات تقريبا، بفضل التحسن الكبير في الاوضاع الامنية بعموم البلاد، لاسيما المدن والمناطق التي كانت خاضعة بنسبة عالية لسيطرة ونفوذ الجماعات الارهابية المسلحة.
ولاشك ان عودة عمليات الخطف والقتل الى تلك المناطق، وبالتزامن مع عمليات تفجير واغتيالات وخطف في مدن ومناطق اخرى، مثل سامراء وكركوك والموصل والشرقاط، وبالتزامن مع تحركات مريبة للقوات الاميركية في المساحات المتاخمة للحدود العراقية-السورية، ناهيك عن ظهور استفزازي لعناصر وتشكيلات عسكرية اميركية في بعض المدن العراقية، خلال الاونة الاخيرة، يثير تساؤلات واستفهامات جدية ومقلقة عن حقيقة مايجري ودلالات توقيته.
وثمة حقيقة اخرى، تفرض التوقف عندها طويلا، تتمثل في ان الحوادث الاخيرة، جرت ضمن رقعة جغرافية محددة، وفترة زمنية قصيرة، وبطريقة واحدة، مستهدفة عناصر من شريحة اجتماعية بسيطة وبعيدة عن الاجواء والمناخات السياسية ومايتعلق بها من ظروف وملابسات، اضف الى ذلك، ان تصفية المخطوفين من مكون مذهبي معين والمنتمين لمحافظة النجف الاشرف، مقابل اطلاق سراح زملائهم من محافظة الانبار، يعني ان الجهة التي تقف وراء تلك العمليات، تسعى الى اشعال نيران الفتنة الطائفية من جديد، بعدما تم اخمادها ودفع شرورها وخطرها عن البلاد، وازاء ذلك، من المهم جدا بمكان البحث والتدقيق والتحري فيمن يمكن ان تكون له مصلحة في تكرار سيناريوهات الارهاب التكفيري الدموي الاجرامي في العراق، لاسيما بعد هزيمة تنظيم داعش الارهابي، بفضل تضحيات وجهود كل العراقيين من كافة العناوين والمسميات والانتماءات والتوجهات.
الحقيقة الثالثة، هي ان حصول خروقات امنية بهذا المستوى الخطير الذي يتسبب بسقوط ضحايا من المدنيين الابرياء، ويخلق اجواء من الارتباك والقلق والفزع، خصوصا في المناطق والمدن التي شهدت حصول الخروقات، يؤشر الى هناك خللا وضعفا في اداء المنظومة العسكرية والاستخباراتية العراقية، يعود اما لنشوء حالة من التراخي والاطمئنان غير المحمود لدى بعض من مفاصل هذه المنظومة بعد تحقيق الانتصار على داعش الارهابي، او انها-اي المنظومة-مخترقة بمستوى يؤدي الى تعرض البلاد لمخاطر حقيقية.
وفي كل الاحوال، فأن الامر يتطلب مراجعات دقيقة، تشخص مواضع الضعف، وتعمل على معالجتها وتلافيها، من خلال تعديل وتغيير الخطط والسياقات الامنية المتبعة، بالشكل الذي يكفل ضرب بؤر الارهاب، وتفكيك خلاياه، وقطع خطوط اسناده وتمويله.
ويفترض ان تأخذ المراجعات المطلوبة بعين الاعتبار كل دقائق الامور وتفاصيلها على ارض الواقع، من قبيل اعداد الارهابيين الذين يتسللون عبر الحدود العراقية السورية من سوريا الى العراق، والمناطق التي يتوجهون اليها ويستقرون فيها، وخطوط امدادهم، وطبيعة الجهات التي توفر لهم الغطاء والحماية.
وهنالك ارقام مقلقة توردها اوساط امنية واعلامية داخلية وخارجية عن اعداد الدواعش الذين فروا من سوريا بأتجاه العراق خلال النصف الثاني من العام الماضي وبدايات هذا العام، وحجم الدعم الذي حصلوا عليه من القوات الاميركية، وما يخططون له للمرحلة المقبلة.
مثل تلك المراجعات المستندة الى الحقائق والمعطيات الدقيقة على الارض، يمكن ان تساهم بقدر كبير في الحؤول دون الانزلاق مرة اخرى الى دوامة العنف والارهاب الدموي التكفيري.
قد تكون عمليات الاختطاف الاخيرة، والتفجيرات والاختراقات في اكثر من مكان، بمثابة جرس انذار، وتحذير مما يمكن ان يحصل لاحقا فيما لو لم يتم تدارك الخطر، ولاشك ان العودة الى الاوضاع الامنية السابقة-لا سمح الله-تعني تفريطا بكل المنجزات والمكاسب والانتصارات المتحققة، وتبديدا لكل التضحيات المبذولة، وهذا ما لاينبغي ان يحدث ويصير.