رغم أنّ القوّة تلعب دوراً رئيسياً في تكريس الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، إلا أن هناك جملة من المبرّرات التي تسوقها سلطات الاحتلال في المحافل الدولية لتبرير احتلالها للأراضي الفلسطينية.
أدركت السلطات الإسرائيلية، ومن وقف خلفها في منتصف القرن الماضي، أن القوّة هي المنطق الوحيد لشرعنة الاحتلال عبر عملية متكاملة تبدأ بشقّ عسكري ينهك الطرف المقابل ويُجبره على الرضوخ العسكري، لتنتقل بعدها إلى المحافل الدوليّة بهيئة قانونيّة عادة ما يتمّ صياغتها من قبل الطرف الرابح على حساب الطرف الخاسر.
وما بين الجرائم التي ارتكتبها العصابات الصهيونية لتهجير السكان الأصليين، والوصول إلى قوانين تُشرعن الوجود الإسرائيلي هناك، عمدت "اسرائيل" إلى التركيز على الهجرة والاستيطان بغية إيجاد تغيير ديمغرافي يسمح لها بالصمود أمام البيئة العربيّة المعاديّة.
بعد الجرائم الصهيونيّة في السنوات الأولى التي تلت النكبة عام 1948، عمدت "اسرائيل" إلى التطبيق العملي لفكرة الهجرة والاستيطان الصهيونيّة بغية إقامة وطن قومي لشتات اليهود على الأراضي الفلسطينية بعد تفريغها من سكانها الأصليين عبر جملة من المبررات الدينية والتاريخية التي تضفيها على وجودها في فلسطين. هذه المبرّرات انحصرت، ولا زالت منحصرة، باليهود أنفسهم حيث لا يمكن استخدامها في القانون الدولي المعاصر نظراً لافتقادها للقيمة القانونيّة، فضلاً عن تعارضها مع الوقائع التاريخية.
مرحلة التاسيس
شكّل المناخ الإقليمي والدولي القائم في أوائل القرن الماضي بيئة خصبة لإنشاء وطن قومي لليهود، وخاصّة بعد نشأة الحركة الصهيونية عام 1897 بقيادة "تيردول هرتزل"، ولاحقاً سقوط الدولة العثمانية بنهاية الحرب العالمية الأول، وكذلك اتفاقية "سايكس بيكو" عام 1916 التي وضعت فلسطين تحت الإدارة الدولية، ووعد بلفور عام 1917.
وبالتوازي مع مناداة القادة الأوروبيين بضرورة إنشاء وطن قومي لليهود، ومحاولة إظهار مظلوميتهم أمام الرأي العام الدولي، شكّل الانتداب البريطاني عام 1920 غطاءً نوعيّاً لعملية الهجرة التي تلقّت خلالها العصابات الصهيونيّة دعماً مالياً أوروبياً. الحرب العالميّة الثانيّة شكّلت مرحلة جديد من الدعم الأوروبي لليهود ليعزّز انتصار الحلفاء عام 1945 الحضور الصهيوني الذي أعلن قيام الدولة عام 1948 بعد إنهاء الانتداب، ولاحقاً سنّ قانون العودة عام 1950، وقانون الجنسيّة عام 1952، والذي أعطى بدوره الحق للمهاجرين بالحصور على الهويّة الإسرائيلية بمجرّد زيارة فلسطين المحتلّة.
مرحلة التشريع
رغم أن مرحلة التشريع الفعلي بدأت بعد العام 1948، إلا أن الكيان الإسرائيلي استخدم جملة من الذرائع التي سبقت هذا التاريخ لشرعنه الاحتلال في المحافل الدولية، ويمكن إلاشارة إلى الذرائع القانونية بالتالي:
أوّلاً: يشكّل وعد بلفور مستمسكاً أساسياً في إقامة الدولة العبرية، حيث أعلن وزير الخارجية البريطاني "آرثر بلفور" تأيده رسميًا لإقامة وطن لليهود على الأراضي الفلسطينية قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1917. وقد منح هذا الوعد اليهود حق إقامة وطن لهم على حساب الفلسطينيين كمكافأة لهم على مساعدتهم لها في الحرب العالمية، بعد خروجهم منتصرين منها، ليعتبر فيما بعد سندًا قانونيًا وقراراً شرعيّاً دوليّاً من بريطانيا الدولة المنتدبة من "عصبة الأمم" على فلسطين والعراق والأردن.
ثانياً: من المبرّرات الأخرى التي تستخدمها اسرائيل، هو قرار التقسيم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 29 نوفمبر 1947، الأمر الذي كرّس وجودهم في فلسطين، من خلال منحهم الحقّ في إنشاء دولة خاصة بهم. ورغم أن "اسرائيل" لم تلتزم بمضمون هذا التقسيم عبر السيطرة على كامل الأراضي الفلسطينية، إلا أنّها تستخدم هذا القرار لتبرير وجودها "القانوني" من وجهة نظر دوليّة تراعي حيثيات المجتمع الدولي. في الحقيقة، شكّل هذا التاريخ انتصاراً سياسيّاً للصهاينة، كونه مهّد الأرضيّة إلى 15 مايو 1948، الموعد الرسمي لإعلان دولة اسرائيل والقدس عاصمتها إلى الأبد.
ثالثاً: في سياق الحصول على الدعم الأوروبي عمدت اسرائيل إلى التذكير بالمجازر التي تعرّض لها اليهود في روسيا خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر، ولاحقاً المجازر التي استهدفت اليهود خلال الحرب الأهلية في روسيا، وكذلك فرار اليهود من النازية في ألمانيا والنمسا. هذا الأمر أوجد قناعة أوروبية بضرورة إقامة دولة يهودية في أرض فلسطين المحتلّة يتمتع فيها اليهود بالأغلبية. رغم أنّ هذه الذريعة لا تستخدم في المحافل الدوليّة،إلا أنها شكّلت ورقة ضغط على القرار الأوروبي الذي كان ممسكاً بعصبة الأمم، ولاحقاً الأمم المتحدة، خاصّة أنّه حال دون تكرار حروب أهلية في أوروبا التي أنهكتها الحربين العالمية الأولى والثانيّ. أي أن اليهود استغلّوا الاضطهاد الذي تعرّضوا له في الدول الأوروبية لاحتلال فلسطين.
في الخلاصة، ورغم أن كافّة القرارات والمواثيق التي تستند إليها "اسرائيل" في الساحة الدوليّة، وربما تكون مادة لموضوع آخر، يمكن الطعن بها قانونياً، من قبيل تجاوزه حدود نظام الوصاية الدولية حيث قررت المادة 1 من ميثاق الأمم المتحدة حق تقرير المصير لجميع الشعوب، وألزمت جميع الدول الأعضاء باحترام ممارسة هذا الحق، بل حتّى القرار يتعارض مع صك الانتداب نفسه. بعبارة أخرى إن المبرارات والادعاءات القانونية الإسرائيلية للسيطرة على فلسطين تخالف قواعد القانون الدولي والوقائع التاريخية، وبالتالي لا بدّ من العمل على تفنيد هذه الادعاءات من الناحية القانونيّة والتاريخية.
المصدر: الوقت