الرواية الرسمية السعودية التي تعترف بمقتل الصحافي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول مليئةٌ بالثقوب، والثغرات، وتعكس محاولة يائسة لكسب الوقت، ولهذا قوبلت بالشكوك، وصعدت المطالبات بإجراء تحقيق دولي شفاف.
فالقول بأن خاشقجي قتل إثر شجار وقع بينه وأشخاص قابلوه في القنصلية تتسم بالكثير من الركاكة والسذاجة، وغير مقنعة على الإطلاق، فالرجل لم يذهب إلى القنصلية من أجل الشجار، وإنما لاستلام وثيقة قانونية، من المفترض أنها جاهزة ولا يحتاج أمر التسليم إلا بضعة ثوان، ثم لماذا يكون الطرف الثاني من هذا الشجار يضم 15 شخْصا؟ وحتى إذا كانت هذه الراوية صحيحة، وهي قطعا مفبركة، فإن الرجل تعرض لاعتداء وكان في حال الدفاع عن النفس.
اعتقال 18 شخْصا من المتورطين في هذه الجريمة، وفصل خمسة آخرين أبرزهم اللواء أحمد عسيري، نائب رئيس المخابرات، وسعود القحطاني، المستشار الإعلامي المقرب جدا للأمير محمد بن سلمان، ورئيس أركان جيشه الإلكتروني، هو محاولةٌ للبحث عن كبش فداء، وتحويل الأنظار عن الشخص المسؤول عن هذه الجريمة، أي ولي العهد السعودي.
لا يمكن أن يقدم اللواء عسيري، نائب رئيس جهاز المخابرات على هذه الجريمة، وإعداد فصولها واختيار المشاركين فيها، دون أوامر من الأمير محمد بن سلمان، وأكد هذه الحقيقة المستشار القحطاني في "تغريدة الوداع” على حسابه على "التويتر” أنه لا يفعل أي شيء إلا تنفيذا لأوامر الملك وولي العهد.
***
العائلة المالكة في السعودية تواجه أحد أبرز التحديات التي تهددها ووجودها، واستمرارها، ولا نبالغ إذا قلنا أنها أخطر من حربي اليمن الأولى والثانية، لأنها تأتي في وقت تواجه فيه انقسامات داخلية، وضغوط دولية، شعبية متدنية سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، فمجلس العائلة لا ينعقد، والأمراء الكبار مهمشون، والكثير منهم صغارا كانوا أم كبارا من الصعب عليهم رؤية الملك، والتشاور معه حول شؤون الأسرة والدولة، والمحظوظ منهم، عليه الانتظار لأيام، وإذا جرى التجاوب لطلبه فإنه يمر وسط إجراءات أمنية مشددة للغاية، من بينها عدم حمل أي سلاح، وترك هاتفه النقال في الخارج، حسب رواية أحد المقربين جدا منهم.
لا نعتقد أن الاعتراف الرسمي السعودي سيغلق صفحة هذه القضية المأساوية، كما أنه لن يكون الأخير، وسيضاف إلى ملف البيانات الأخرى التي حاولت طمْس الحقائق مثل الادعاء بأن السيد خاشقجي غادر القنصلية، وأنه لم يتعرض للقتل داخلها.
الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، لم يجاف الحقيقة، عندما أكد في حديثه لوكالة بلومبيرغ بعد ثلاثة أيام من اختفاء خاشقجي أنه غادر القنصلية فعلا، ولكنه لم يقل كيف، حيا أو ميتا، بكامل هيئته أم مقطعا؟
الجريمة لن تختفي من صدر نشرات التلفزة وعناوين الصحف الرئيسية التي تتربع عليها حاليا، لأن الدهاء التركي أراد أن يبقيها كذلك، ولأن الحكومة السعودية ما زالت تخفي الكثير من الحقائق، وتأتي اعترافاتها بالتقسيط غير المريح قطْعا.
الأمر الوحيد المؤكد حتى الآن أن الخاشقجي قد انتقل إلى الرفيق الأعلى خنقا أو تقطيعا داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، ولكن الجميع يترقب الدليل الأهم عن هذه الجريمة، وهو جثمان الضحية، والهيئة التي سيكون عليها، وكيفية إخفائه، سواء تحت الأرض أو فوقها.
القيادة السعودية استطاعت بالمال وصفقات الأسلحة أن تتجاوز أزمة هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ولكن سيكون من الصعب عليها تجاوز "أزمة خاشقجي”، لأنها باتت داخلية أمريكية أولا، وعالمية ثانيا، ونقطة ارتكاز أساسية في الانتخابات التشريعية النصفية، وعامل توحيد، لأجهزة الإعلام الأمريكية، والعالمية وإذا كانت هناك استثناءات فهي محدودة، فمن كان يتوقع وقوف "سي إن إن” خصم ترامب، و”فوكس نيوز″ حليفته في خندق واحد.
***
ترامب يريد استخدام قضية خاشقجي لابتزاز المملكة ماليا وقضائيا، لتحقيق أكبر صفقة ممكنة، ولعل تصريحه الأخير حول الاعتراف السعودي بالقتل إلا الدليل الأمثل، حيث وصف البيان بأنه تفسير "معقول”، وقال "أنها خطوة أولى جيدة، وما حدث غير معقول”، نشرح أكثر: فقوله أنها "خطوة أولى” يعني أنه يجب أن تتبعها خطوات.. فما هذه الخطوات التي يقصدها؟ تغيير في هيكلية الحكم السعودي تشمل الإتيان بولي عهد جديد؟ ومن يكون؟
نشعر بأننا نقف أمام سيناريو مشابه لتحقيق دولي، ومحكمة خاصة على طريقة "لوكربي”، ولكن بتعديلات كبيرة، وأبرزها الذهاب إلى المتهم الرئيسي، وليس "كبش الفداء” فقط، فالزمن تغير، والظروف تغيرت، والمحكمة الجنائية الدولية قد تكون الفصل الأخير لهذا المسلسل.
السعوديون نجحوا في تنفيذ العملية، وهو الجانب الأسهل، وفشلوا في التستر وإخفاء الأدلة، وهو الجانب الأكثر تعقيدا.
الدولة السعودية الرابعة ربما تؤدي جريمة خاشقجي إلى وأدها وهي مجرد نطفة.. والله أعْلم.
* عبدالباري عطوان