بعد أن انتظر الجميع منه المعطيات العلمية والقانونية المطلوبة - والناقصة حتى الآن - في قضية الصحافي السعودي جمال الخاشقجي، لم تتضمن الكلمة الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب اردوغان بالأمس، اي عناصر جدية تفيد الحقيقة في الجريمة التي تشغل الرأي العام الدولي والاقليمي بشكل غير مسبوق، في الوقت الذي من المفترض أن تكون تركيا بأجهزتها المختصة، هي الجهة الأنسب لتقديم المُنتِج من المعلومات الضرورية لكشف خيوط الجريمة.
في الواقع، ومن الناحية القانونية، العناصر الأساسية المطلوبة في جريمة الخاشقجي والتي كان من المفترض أن يتطرق اليها الرئيس التركي (انطلاقا منها تتكون دعائم "الحقيقة كاملة" التي وعد بها اردوغان) يمكن تحديدها كالتالي:
من هو الآمر بتنفيذ الجريمة؟
عندما يتم إتهام مجموعة من 18 عنصراً على الأقل من الدائرة الضيقة لولي العهد السعودي، تركياً بداية وسعودياً لاحقا بعد عشرين يوما، ويُطلب من الأخير إجراء تحقيق مع هؤلاء لكشف ملابسات الجريمة، في الوقت الذي يجب توجيه الاتهام له بشكل رئيس في اعطاء أمر التنفيذ، استناداً لاتهام فريق كامل من المقربين له، يكون بذلك قد تمّ إلغاء وتضييع النقطة الأساس في كشف المسؤولية عن الجريمة. وهذا ما ساهم به اردوغان، حيث من المفترض أن أجهزته تملك المعطيات الأساسية لكشف ومتابعة وتحليل من أعطى الأمر، من خلال اعتراض الاتصالات التي سبقت وواكبت وجود الفريق المتهم في القنصلية، والتي حصلت لاحقاً بعد التنفيذ مباشرة.
من ناحية أخرى، واذا لم تَكشف حتى الآن مراقبةُ أو اعتراضُ الاتصالات مع القنصلية، عند أو قبل أو بعد تنفيذ الجريمة، الآمرَ بالتنفيذ كائنا من كان، فهذا يعني أن كشف المسؤول الأساس أصبح مستحيلاً بعد اليوم، فهو طبعاً لن يعترف لاحقا خاصة اذا كان صاحب سلطة، وحتماً أيضاً لن تظهر هذه المعلومات لاحقاً، فهي إمّا موجودة من الأساس وقد تم طمسها وتجاوزها، وإمّا هي فعلياً غير موجودة، وبالتالي ستبقى حلقة أساسية ناقصة من عناصر الجريمة.
أين هي الجثة؟ وهل اختفت بسحر ساحر أو تبخّرت؟ وهل عجزت المنظومة التركية المتطورة في المراقبة واقتفاء الآثار والأدلة الجنائية التركية، عن تحديد مكانها حتى الآن؟ وهل يستطيع فريق أمني معين (الفريق المتهم) أو تستطيع قنصلية دولة معينة (السعودية هنا)، مهما كانت قدراتها، أن تتفوق على قدرات دولة كبرى كتركيا، بحيث تستطيع إخفاء معالم جريمة "واضحة المعالم" كجريمة مقتل الخاشقجي؟ وخاصة أن الأضواء تسلّطَت على وقائعها وحيثياتها منذ اللحظة الاولى لاختفاء الخاشقجي.
في ما يتعلق بالمنشار، الذي يعطي الطابع الوحشي لعملية القتل ويثير الرأي العام الدولي، يُعتبر إحدى وسائل اخفاء آثار الجريمة أو الجثة، وليس طبعاً وسيلة اقتراف الجريمة، فهو من الناحية المنطقية موجود في مسرح الجريمة، لأن إخفاء الجثة بسرعة وتوزيع أجزائها على أكثر من حقيبة لتسهيل نقلها، يتطلب حتماً هذا النوع من الآلات، وهذا يتطلب إمّا ادخاله مع الفريق داخل احدى الطائرات، وإمّا تأمينه من داخل تركيا، وفي حالة ادخاله مع الفريق من خارج تركيا، من المفترض أن تضبطه كاشفات المطار أو تسجيلات تلك الكاشفات، حتى لو كان بعض أعضاء الفريق يملك حصانة ديبلوماسية، فشريط تسجيل الكاشفات يتابع تسجيلاته بمعزل عن السماح أو عدم السماح بادخال المنشار، وفي حالة تأمينه من داخل تركيا، كان من المفترض أن تتوصل أجهزة الأمن التركية الى مصدره والى من حصل عليه، وهذا الموضوع تناساه أوتجاوزه الرئيس التركي في معرض سرده "الحقيقة كاملة" كما هو مُفترض.
ربما كانت النقطة الوحيدة التي قدمها اردوغان في الملف وخالفت الرواية السعودية، هي أنها جريمة مُخطط لها ولم تكن طارئة، بمعنى استدرِج اليها الفريق المتهم عن طريق الخطأ أوعن طريق ردّ الفعل العنيف على سلوك الضحية أثناء التحقيق معه، أو أثناء محاولة إقناعه الفاشلة بالعودة معهم الى السعودية. لكن تبقى هذه النقطة غير صالحة وعلى الاقل غير كافية، لتحديد من أعطى الأمر بتنفيذ الجريمة، ويمكن وضعها في خانة المبادرة الشخصية للفريق كعمل استدراكي تم التحسب له سابقا، لمقاومة الخاشقجي المفترضة لما سيُطلب منه، وخاصة أن طبيعة شخصيته القوية معروفة من بعض عناصر الفريق.
من هنا يمكن القول إن الرئيس التركي بالامس، ساهم في إبعاد وتضييع الحقيقة اذا لم يكن في طمسها، لأنه تجاوز العناصر الأساسية لكشفها، وخاصة لناحية هوية الآمر بالتنفيذ (المُفترض)، والذي تم تكليفه سعودياً برعاية وإدارة التحقيق مع الفريق المتهم، وكما يبدو، يحتفظ اردوغان بمعطياته الاساسية والضرورية حول تحديد وكشف من الذي أعطى الأوامر وواكب العملية، لجولة لاحقة من جولات التفاوض والتسويات، والتي ستكون حاسمة في تحديد خيوط الصفقة الثلاثية الابعاد: أميركياً وسعودياً وتركياً.
العهد-