ذهب الرئيس نبيه بري بعيداً في «انتفاضته» على مشاركة ليبيا في القمّة الاقتصادية العربية في بيروت، ملوِّحاً بخيارات تصعيدية في مواجهة أيِّ حضور لها في العاصمة اللبنانية، ما دفع البعض الى التساؤل عن الأسباب الحقيقية التي تقف خلفَ قرار رئيس مجلس النواب برفع السقف الى هذه الدرجة.
في ما يلي تكشف «الجمهورية» وقائع من المفاوضات المتعثّرة مع الجانب الليبي في شأن قضية إخفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه، والتي تفسّر الحدّة في موقف بري.
عند اندلاع الثورة الليبية على نظام معمر القذافي، تعاطف بري معها وحاول قدر الامكان ان يساعدها، حيث دفع آنذاك في اتجاه ان يدعم لبنان- الذي كان عضواً غير دائم في مجلس الامن- قراراً عاجلاً للمجلس، قضى بتكليف التحالف الدولي قصف قوات القذافي، ما ساهم في صمود الثوار وصولاً الى انتصارهم لاحقاً.
إفترض بري بعد انتصار الثورة، انّ القيادة الليبية الجديدة ستبدي القدر الكافي من التعاون لتحرير الامام الصدر ورفيقه، فيما كان وزير العدل اللبناني حينها شكيب قرطباوي يستقبل في شباط 2012 وفداً قضائياً ليبياً رفيع المستوى، بحضور المنسّق القضائي للقضية حسن الشامي، ويبلغه رسالة واضحة مفادها:
«انّ قضية الامام ورفيقيه لم تعد تتحمّل المزيد من الانتظار. لقد عانينا ما فيه الكفاية مع معمر القذافي، فلا تفرضوا علينا الانتظار لسنوات إضافية».
لكن الاختبار الاول لم يكن مشجعاً كثيراً. في نيسان 2012 أبلغ الجانب الليبي الى نظيره اللبناني انّه تمّ العثور على جثامين ربما تعود الى الامام الصدر ورفيقيه، وسيتم إخضاعها الى فحوص الـ «دي إن إي» للتثبت من هويتها، وذلك في مركز دولي مختص في البوسنة والهرسك.
إلّا انّ الطرف الليبي ماطل في إنجاز المهمة وإجراء الفحوص، فيما كان أعضاء ضمن لجنة المتابعة اللبنانية لقضية الصدر قد استكملوا تحضيراتهم للتوجّه الى البوسنة والهرسك.
وإزاء الاستمرار في إهدار الوقت، تدخّل بري شخصياً ووجّه رسالة عاجلة الى رئيس مجلس النواب الليبي في تلك المرحلة مصطفى عبد الجليل، مستغرباً تقاعس الوفد الليبي وتأخّره في السفر الى سراييفو، فاستجاب عبد الجليل الى ضغط بري وتمّت الفحصوص التي أظهرت ان الجثامين لا تعود الى الصدر ورفيقيه.
إستمر الأخذ والرد بين بيروت وطرابلس الغرب بغية تنظيم إطار للتعاون حول ملف إخفاء الصدر، واشترط بري خلال التفاوض ان يتضمن اي اتفاق تنسيقي إقراراً بأنّ جريمة خطف الصدر ورفيقيه تمّت في ليبيا من قِبل معمر القذافي ونظامه، وقد حرص بري على ان يخط هذا البند بيده.
تجاوب الطرف الليبي مع طلب بري، وفي آذار 2014 جرى التوصل الى مذكرة تفاهم وقّعها السفير اللبناني في طرابلس الغرب ووزير العدل الليبي، وتضمنت التزام القيادة الليبية بالامور الآتية:
• إجراء التحقيقات بحضور المنسق القضائي اللبناني حسن الشامي، إنما من دون ان يشارك في طرح الاسئلة، احتراماً للسيادة الليبية.
• تفتيش أماكن الاحتجاز المجهولة في ليبيا.
• تبادل المعلومات بين الدولتين.
• التواصل الدائم للوصول الى كشف كل ملابسات القضية.
ومع مرور الوقت، لمس بري انّ الجانب الليبي يتملص من تنفيذ التزاماته، بحيث لم يطبّق من مذكرة التفاهم سوى الجزء القليل ولم يُبق على جسور التواصل مع الجهات اللبنانية المعنية كما هو مفترض، بل أهمل بشكل فاضح قضية الصدر وانقلب على وعوده في شأنها، علماً انّ رئيس المجلس النيابي كان قد ابدى بعد الثورة تعاوناً في ملفات تهمّ الشعب الليبي واستجاب الى بعض طلبات القيادة الجديدة في هذا الصدد، على قاعدة التعاطف مع شعب كان ضحية للقذافي كما هو وضع الصدر ورفيقيه.
إلّا انّ بري فوجئ بأنّ بعض الاوساط الحاكمة في ليبيا لم تُعامله بالمثل، وانما راحت تتصرّف بكثير من الخفة والاستخفاف حيال قضية الصدر، مستخدمة اسلوب الابتزاز والمقايضة احياناً، ونهج الاستعلاء والايذاء أحياناً أخرى.
ومن الامور التي أزعجت بشدة رئيس المجلس، سلوك وزير الخارجية الليبي الحالي محمد الطاهر سيالة، الذي خاطب خطياً السفير اللبناني لدى ليبيا بلهجة استفزازية تتجاوز الأصول الدبلوماسية في التخاطب بين الدول، لما انطوت عليه من تهديد وإساءة وابتزاز ونزق، وفق تأكيدات مصادر واسعة الاطلاع، تشير الى انّ الوزير سيالة يتصرّف بسلبية وعدائية مع قضية الصدر.
كما انّ الحكومة الليبية الحالية برئاسة فايز السراج، والمُعترف بها دولياً، لم تفعل اي شيء عملي للمساهمة في كشف مصير الصدر ورفيقيه، ما فاقم ريبة بري في حقيقة نياتها، وعزّز احساسه بأنّ هناك اتجاهاً ليبياً على اعلى المستويات لطي مرحلة القذافي بكل ملفاتها ومن ضمنها ملف الصدر، وهو ما لن يقبل به رئيس المجلس الذي يعتبر ان الليبيين هم أحرار في طريقة التعاطي مع شؤونهم الداخلية، أما قضية الصدر فليست للمساومة او للطمس.
وأمام سياسة اقفال الابواب المعتمدة من المسؤولين الليبيين، تسعى لجنة المتابعة اللبنانية الى التواصل مع اركان نظام القذافي الفارين والموجودين خارج ليبيا، ومع أجهزة مخابرات عربية ودولية، لمحاولة الوصول الى مكان احتجاز الصدر.
اما العلاقة مع الحكومة الليبية المُعترف بها دولياً، فلن تستقيم قبل ان تباشر في تنفيذ مذكرة التفاهم، كما يجزم القريبون من عين التينة.
المصدر: الجمهورية